(إني أشبه العقاب بالسم، يضاف أحيانًا إلى الدواء، ولكن بمقدار، ومن يد مدربة، بعد تشخيص سليم للداء، ومراعاة لكل ما يحيط بالمريض من اعتبارات، وبذلك وحده يمكن أن يصير السم عنصرًا مفيدًا، من عناصر الشفاء، وإلا غدا سُمّا فحسب..وواضعه قاتلًا، وليس قتل الشخصية مع ترك الجسد حيًا، بأقل خطرًا من عودة الروح إلى ربها بموت الجسد وحده) [كيف نربي أولادنا، القاضي حسن العشماوي ص(32)].
عزيزي المربي..
من ثوابت الرسالات السماوية على مدار التاريخ البشري، الإنذار والتبشير، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، لأن الجزاء على الأعمال بالسعادة والشقاوة والجنة والنار، غاية العبادة لله عزّ وجلّ، والفطرة التي فطر الله الخلق عليها مهيأة لهذا الأمر، ولا يصلحها سوى شريعة الجزاء ثواباُ للمحسن، وعقاباُ للمسيء، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10]، وذكر الله - تعالى -من سياسة ذي القرنين أنه قال: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 87 -88][العشرة الطيبة، محمد حسين ص(263)].
ولكن ماذا نعني ب"العقاب":
العقاب هو أثر يحدثه المربي في المتعلم، فور سلوكه سلوكًا غير مرغوب فيه،فيسبب له ألمًا نفسيًا أو ماديًا، بهدف ردعه ومنعه من تكرار هذا السلوك الخاطيء. [كيف نؤدب أبناءنا بغير ضرب؟، محمد نبيل كاظم، ص(92)].
أهمية ومزايا أسلوب العقاب:
إن عقاب الطفل ليس عملًا انتقاميًا منه، وإنما هو إجراء له هدف تربوي، والمربي الناجح يحاول تربية طفله بأساليب الثواب الحسّي والمعنوي أولًا، فإن لم يتأدب الطفل لجأ المربي إلى العقاب ولكن ضمن قواعد وضوابط، وعندما يذوق الطفل ألم العقاب والهجر؛ يعرف قيمة الحنان والعاطفة التي تدفقت عليه من قبل؛ فيدرك أن الأمر جد لا هزل فيه، ويشعر حينها بضرورة الانقياد والطاعة. [موسوعة التربية العملية للأبناء، هداية الله أحمد شاش ص(386)].
وإذا استخدمت العقوبة في حدود الرفق والإعتدال؛ فإنها تساعد على سرعة تكوين الضمير لدى الطفل، وينبهه على الإقبال على السلوك المرغوب والبعد عن المرذول اجتماعيًا، كما يكون العقاب مصححًا للأخطاء، إذا قارنه شرح وتفهيم للخطأ والضرر، والنفع الذي يفوته بارتكابه للخطأ.
ومن نماذج العقاب التربوي المؤثر:
- إبداء الرفض والإباء للسلوك غير المرغوب.
- التقويم الموضوعي والكلمة المؤلمة: فعبارة "خطأ" أو"عمل مرفوض" أو"هذا الموقف ليس بجيد منك"، كلها تصب في هذا الجانب على أن يتوجه التقويم إلى العمل لا إلى صاحبه.
- النظرة الحادة والعبوس: ويتأثر الطفل بها بتعويده على أنها وسيلة للعقاب.
- الهمهمة: وهي صوت يدل على الإنكار والتنبيه للابن أن ما ارتكبه أو يرتكبه من خطأ.
- مدح غيره أمامه: ويستخدم هذا الأسلوب بشرط أن يكون هذا المدح للعقاب،وأن يكون هناك وجه للمقارنة بين الطفلين، وأن يراعي الإقلال من هذا الأسلوب لئلا يترك أثرًا سيئًا في نفس الطفل.
- الحرمان: كالحرمان من أحد حقوقه كالمصروف أو النزهة، أو اللعبة، أو الرحلة، على أن يكون الحرمان متناسبًا مع درحة الخطأ، وألا يكون الحرمان من شيء ضروري كالطعام والشراب، أو متابعة دراسته.
وحتى يكون العقاب ناجحًا.. إليك هذه القواعد:
- لا تعاقب وأنت غاضب:
أكدت إحدى الدراسات التربوية، والتي تناولت أسباب إيقاع العقوبة البدنية بالأبناء، أنّ 95% من الآباء الذين يضربون أبناءهم لا يضربونهم لأسباب تربوية مقبولة، لكنهم يضربونهم للتنفيس عن غضبهم..! بينما الغرض من العقاب هو تعليم أطفالك أن يسلكوا سلوكًا أفضل وليس الإنتقام منهم، أو إفراغ شحنات الغضب في وجوههم، وإذا استولت عليك ثورة الغضب فتوضأ واهدأ أولًا ثم عاقب الطفل بما يتناسب مع خطئه.
- كلما كان العقاب نادرًا كلما كان أكثر تاثيرًا:
فالقاعدة الذهبية تقول: العقاب الجيد لا يستخدم إلا نادرًا يجب أن يقلل العقاب الناجح من الحاجة إلى المزيد من العقاب، إذ يحدّ من السلوك السيء ذاته، و كثير من الآباء قد لا ينتبهون لهذه القاعدة لأنهم يركزون على على العقاب أكثر من تركيزهم على السلوك السيء ذاته. [الإبداع في تربية الأولاد، د.توفيق الواعي ص(133 بتصرف)].
- لا للعقوبة القاسية:
كالتحقير والإهانة،أو الضرب الجسدي العنيف المؤذي، لأن العقوبة القاسية تؤذي الشخصية، وتخلقردود أفعال سلبية تتمثل في الكيد، والإمعان في عداوة الأهل من خلال التمسك بالسلوك السلبي غير المرغوب لمجرد الصراع مع الوالدين وتحدي سلطتهما.
- العقوبة البدنية تأتي آخرًا:
لا تلجأ إلى العقاب بالضرب إلا بعد استنفاد أنواع العقاب الأخرى (العبوس والعتاب والتأنيب والحرمان من بعض المحبوبات والتهديد بالعقوبات الشديدة)، وليكن من المرة الأولى ضربًا مؤلمًا، لكنه ليس مؤذيًا، أما إذا بدأت بالضرب الخفيف ثم الأشد ثم الأشد، فإنه يفقد قيمته كليًا!.
- التوازن في العقوبة:
بمعنى أن تكون العقوبة متناسبة مع الأمر الذي استوجبته، فعقوبة الولد الذي تكلم بكلمات نابية يجب أن تكون أكبر من عقوبته إذا كسر كأسًا بسبب قلة انتباهه.
- العقاب بعد الخطأ مباشرةً:
يجب أن يكون الفاصل الزمني بين العقوبة وبين السبب الذي استوجبته، قصيرًا قدر الإمكان، حتى يكون وقْعها مؤثِّرًا في الردع عن الخطأ أو المعصية التي تعاقب عليها.
- لاتوقع عقابًا على الطفل وهو بريء:
وهذا يتطلب منا الحذر ومراعاة التيقن من أن الخطأ قد صدر من الطفل وليس من الآخرين ذلك ان كثيرا ًمن الأطفال يلجئون إلى الكذب الدفاعى أوالإنتقامى، وقد يقدم الواحد منهم قصصًا مقنعة، فتتحول العقوبة إلى غيره بسببه؛ لأنه أسنّ وأقوى حجة، وبعد أن يعاقب الطفل البريء يجلس يجتر مشاعر الظلم والقهر، ولهذا عواقب وخيمة على نفسه ومستقبله، وحينئذ فإن أبسط حق لهذا المظلوم أن نعتذر له ونطيّب خاطره، لنزيل عنه آثار الظلم، ونعلمه خلق الإعتراف بالخطأ.
- لا للعقاب على الخطأ أو النسيان أو الإكراه:
إنّ الله تعالى برحمته ولطفه بعباده قد تجاوز عنهم فى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فقد ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، (2043)]، وهذه المواقف كثيرًا ما تقع للأبناء كأن ينسى أحدهم ما كلفناه به، أو أن تطيش يده عفوًا فينسكب الطعام على الأرض، أو يسرع ليناول أمه إناءًا يعجز عن حمله فينسكب ما فيه، فالله تعالى قد عفا عن الكبار المكلفين فى مثل هذه الحالات، فكيف بالأطفال الصغار الذين لم يبلغوا سن التكليف بعد؟
- لا تعاقب الطفل على خطأ سبب له ألمًا:
لأن هذه الآلام فى حدّ ذاتها كانت وسيلة تأديب بالنسبة له، فحسبه إذن ما ناله من ألم، ولا داعى لتوبيخه فى هذه الحالة، فغن ذلك يزيده ألمًا، خاصةً إذا خسر شيئًا شخصيًا كتعطل لعبته مثلًا، أو إصابته بجرح أو لسعة من إناء ساخن، لكن لا مانع أن نشرح له أن سبب ذلك هو عدم التزامه بتعليماتنا أو عدم اكتراثه بتحذيراتنا، وأن عليه أن يتحمل نتيجة عمله، فإذا كانت آلامه كبيرة أجلنا ذلك الشرح ريثما يهدأ ويتحسن.
- لا تعاقب الطفل لكونه كثير الحركة:
إن كثرة الحركة والنشاط من خصائص مرحلة الطفولة، وهو دليل على سلامة الطفل ونموه بشكل طبيعى، فليس من العدل أن نعاقبه على ذلك، أو أن نقيد حركته، لكن لا مانع من إرشاده وضبط سلوكه.
- لا تعاقب الطفل إذا كان يعانى من مشكلات خارجة عن إرادته:
فليس من العدل أن نعاقب طفلًا لكونه يعانى من مشكلات واضطرابات نفسية، كالخوف أو الغيرة، أو كانت قدراته العقلية دون المتوسط فأدت إلى انخفاض مستواه الدراسى، لأن العقاب فى هذه الحالة يزيد المشكلة تعقيدًا، وقد يفرز مشكلات نفسية أخرى!
- لا تعاقب الطفل إن اعترف بخطئه:
وإلا فإن الإصرار على معاقبته رغم اعترافه سيدفعه إلى عدم الإعتراف بأى خطأ فى المستقبل.
وأخيرًا..عزيزي المربي
إن التربية الخالية من الألم هي تربية موجودة في الفراغ، ومحض تصور لا معنى له على الإطلاق، والمربي الناجح هو الذي يعرف متى وكيف يستخدم أسلوب العقاب مع الطفل، ويستحضر دائمًا أن العقاب وسيلة تربوية تأتي بعد نفاذ الوسائل الأخرى ووتحتاج غلى الحكمة والإتزان في تنفيذها، فعاقب ولكن كن كالطبيب الذي قد يؤلم مريضه للحظات وغايته أن يصل به إلى العافية بأمر الله تعالى.
المصادر:
كيف نؤدب أبناءنا بغير ضرب؟، محمد نبيل كاظم.
العشرة الطيبة، محمد حسين.
موسوعة التربية العملية للأولاد، هداية الله أحمد شاش.
الإبداع في تربية الأولاد، د.توفيق الواعي.
الكاتب: سحر محمد يسري
المصدر: موقع مفكرة الإسلام